مشروع التأمين اللامركزي نحو التغطية الصحية الشاملة
مشروع التأمين اللامركزي نحو التغطية الصحية الشاملة[1]
الدكتور وليد عمّار[2]
التوجه الإستراتيجي لقطاع الصحة
لقد بينت الحسابات الوطنية للصحة للعام 1998 بان نسبة الانفاق الصحي العام كانت حوالي 12.3% من اجمالي الناتج المحلي، وان 60% من هذا الانفاق كان يدفع مباشرة من المواطنين (Out-of-Pocket). مما لا شك فيه بأن تركيز التمويل على العلاج وضعف الوقاية والرعاية الصحية الأولية آنذاك ساهما في زيادة استهلاك العلاجات المكلفة. إن نجاح الوزارة في خفض الإنفاق ليصبح 8.5% من الناتج المحلي وخفض نسبة المساهمة المباشرة للأسر إلى 44% من اجمالي الإنفاق يؤكد على صوابية استراتيجيتها المرتكزة على الرعاية الصحية الأولية، خاصة وان ترشيد الإنفاق قد ترافق مع زيادة في حجم وجودة الخدمات ومع تحسن ملحوظ للمؤشرات الصحية. إلاّ ان مساهمة الأسر ما زالت مرتفعة وتستوجب المثابرة في الإستراتيجية المتبعة وتحقيق تغطية صحية شاملة. وبما ان الوزارة تغطي الإستشفاء والعلاجات المكلفة دون الخدمات الخارجية لذلك لابد من تطوير خدمات الرعاية الصحية الأولية وضمان جودتها لتشكل بديلاً مقبولاً للخدمات التي يقدمها القطاع الخاص من معاينات وأدوية وفحوصات. مما يستوجب توسيع وتعزيز شبكة المراكز وإعتماد نظام تأمين يسهل إيصال الخدمات إلى جميع المواطنين خاصة الفئات المستضعفة.
موقع الرعاية الصحية الأولية في النظام الصحي
تؤمن خدمات الرعاية الصحية الأولية مردوداً صحياً كبيرأ بالمقارنة مع الموارد المتواضعة التي تحتاجها. إن العلاقة التعاقدية مع مؤسسات المجتمع المدني ساهمت إلى حد كبير في ترشيد الإنفاق الصحي عبر تخصيص قدراً اكبر من الأموال للرعاية الصحية الأولية من جهة وترشيد خدمات القطاع الأهلي من جهة أخرى. بنيت هذه العلاقة على التزام المراكز بتقديم سلة كاملة من الخدمات وفقاً لتعريف منظمة الصحة العالمية، بعد ان كانت تقدم فقط الخدمات العلاجية والأدوية. بينما تتعهد الوزارة بتقديم الدعم التقني من صياغة بروتوكولات وتدريب العاملين وتأمين اللقاحات والأدوية الأساسية عبر اليونيسف وأدوية الأمراض المزمنة عبر جمعية الشبان المسيحية. ان ما يميز هذه العلاقة هو عدم شراء الخدمات ودفع الأموال للجمعيات والإكتفاء بالتقديمات العينية. علماً ان المركز يلتزم بتحسين المستوى الصحي للمواطنين في نطاقه الجغرافي عبر تقديم الرزمة الشاملة لخدمات الرعاية الصحية الأولية. أي ان العقد لا يحفّز الإستهلاك، بل يحفّز المداخلات المجتمعية الضرورية والهادفة. لقد شكلت هذه العلاقة البديل المناسب للمساهمات المالية التقليدية التي تقدمها عدة وزارات للجمعيات الأهلية دون ان تكون الدولة قادرة على التحكم بالإنفاق او حتى تقييم نتائجه. ان ما تقدمه وزارة الصحة للمراكز الصحية من تدريب وأدوية اساسية ولوازم طبية وتعزيز قدرات ضمان الجودة هو هادف بطبيعته ولايمكن توظيفه إلاّ للغاية المحددة له. كما ان ادخال البلدية كطرف ثالث في العقد أمّن مشاركة فاعلة للمجتمع المحلي في توجيه وإدارة وتقييم خدمات الرعاية.
ان تعزيز شبكة مراكز الرعاية الصحية الأولية، وربطها بالمستشفيات الحكومية وفق نظام احالة، يعتبر ركيزة أساسية للإستراتيجية الوطنية. تشمل هذه الشبكة تدريجياً كا مل المناطق اللبناية مستعينة من اجل ذلك بنظام المعلومات الجغرافي GIS الذي يبين مجموعات القرى التي مازالت بحاجة للتغطية. تستوجب التغطية الشاملة بدايةً اعتماد نظام تأمين يكون بمتناول جميع المواطنين يعزز ارتباطهم بنظام الرعاية الصحية الأولية ويؤمن لهم الخدمات الوقائية والكشف المبكر للأمراض للبدء بعلاجها قبل تفاقمها مما ينعكس ايجاباً صحياً ومالياً على الأسر والصحة العامة وانفاق الدولة.
مشروع التأمين اللامركزي للعلاجات الأساسية للمواطنين غير المضمونين: خطوة أساسية نحوى التغطية الصحية الشاملة
يقوم مشروع التأمين اللامركزي لتغطية العلاجات الأساسية على الأسس التالية:
يُحَدد نطاق جغرافي لكل مركز صحي ضمن الشبكة الوطنية للرعاية الصحية الأولية ويُربط كل مركز بمستشفى حكومي ضمن نظام إحالة. يتم توسيع الشبكة لتشمل جميع القرى والمدن وأحيائها كافة. يستهدف البرنامج المواطنين غير االمشمولين بتغطية صحية رسمية.
تُشكل لجنة للإشراف على برنامج التأمين المحلي يتمثل فيها المركز الصحي وطبابة القضاء ومجلس ادارة المستشفى الحكومي في القضاء والبلدية او البلديات المعنية. تقوم اللجنة بالنشاطات اللازمة لاستقطاب المواطنين خاصة الفقراء وتحيل طالبي الإنتساب على المستشفى الحكومي في نطاقها الجغرافي.
يحدد اشتراك للفرد على ان لا يتعدى مجموع اشتراك العائلة مبلغاً سنوياً مقطوعاً يُسدد للمستشفى الحكومي ويمكن تقسيطه، كما يعتمد نظام لإعفاء العائلات الأكثر فقراً. يقدم المستشفى الحكومي لكل منتسب فور تسديد اشتراكه معاينة سريرية ورزمة من التحاليل محددة لكل منهم وفقاً لجنسه ولفئته العمرية، كما تستكمل اللقاحات للأطفال والاولاد وفقاً للرزنامة الوطنية للتلقيح.يفتح المستشفى الحكومي سجلاً الكترونياً لكل منتسب مع رقم خاص يصدره النظام المعلوماتي ويحال آلياً على الوزارة والمركز الصحي المعني.
يقدم المركز للوزارة لوائح اسمية بالمنتسبين مع اثبات تسديد اشتراكاتهم وفتح ملف طبي لكل منهم. تُصدر الوزارة بطاقات الانتساب انطلاقاً من نظام البطاقات المعمول به وتُنشيء قاعدة معلومات موحدة لجميع المنتسبين مرتبطة بالمراكز الصحية والمستشفيات الحكومية.
ترعى العلاقة بين الوزارة والجمعيات التي تدير المراكز الصحية عقود تكون البلديات شريكاً فيها. تشرف اللجنة على عمل المركز وتتأكد من ايصال الخدمات الى المواطنين وفقاً للعقد. كما تساهم البلديات وفق امكانياتها بتمويل تحديث خدمات المراكز واستقطاب الاختصاصات غير المتوفرة.
تقدم الوزارة دعماً مالياً لكل مركز وفقاً لعدد المنتسبين اليه إضافة إلى تزويد المركز بكل احتياجاته من الأدوية الأساسية واللقاحات المستوردة عبر منظمة اليونسف وأدوية الأمراض المزمنة عبر جمعية الشبان المسيحية كما تتابع الوزارة تقديم الدعم التقني والتدريب.
تتعاقد الوزارة مع المستشفيات الحكومية لتقديم الخدمات الخارجية غير المتوفرة في المركز الصحي كالمعاينات المتخصصة والفحوصات المخبرية والشعاعية وغيرها وتؤمن الإعتمادات اللازمة لذلك.
تعتمد الوزارة بروتوكولات للمتابعة المستمرة للأمراض المزمنة Case Management.
تعتمد بروتوكولات علاجية واضحة لصرف الأدوية وطلب الفحوصات وتؤمن الوزارة شراء الأدوية للمراكز والمستشفيات الحكومية وتحصر بالأدوية الأساسية الجنيسية.
لا يغطي هذا المشروع المعاينات في العيادات الخاصة والتحاليل في المختبرات الخاصة والأدوية من الصيدليات الخاصة.
من المتوقع ان يزيد هذا البرنامج ايرادات المراكز الى ضعف الايرادات الحالية على الأقل في سنته الأولى مما سيتيح استقطاب عناصر بشرية اضافية وتعزيز امكانات المراكز على جميع الأصعدة.
إن زيادة نشاطات المراكز ستؤدي الى زيادة الطلب على الأدوية الاساسية التي تؤمنها او تمولها الوزارة كما سيرتب اعباء ادارية اضافية على دائرة الرعاية الصحية الأولية مما يستوجب تأمين الموارد البشرية والمالية اللازمة. إن كلفة المشروع المتوقعة هي 60 مليار ليرة وتقدر مساهمة الدولة فيه بأربعين مليارة ليرة.
مشروع التغطية الصحية الشاملة
ان تحقيق تغطية صحية شاملة لجميع المواطنين يعتبر من اهم اهداف الإستراتيجية الوطنية للصحة ويستند إلى مبادئ العدالة والإنصاف والإستعمال الرشيد للموارد ومحاربة الفقر. وذلك يقضي بتأمين الرعاية الصحية الوقائية والعلاجية المضمونة الجودة لجميع المواطنين كل وفقاً احتياجاته، على ان يساهم كل فرد وفق امكاناته وان يُرفع العبء المالي قدر الإمكان عن الأكثر فقراً. يقوم نظام التغطية الشاملة على الأسس التالية:
تُحدد سلة من الخدمات الأساسية الوقائية والعلاجية والإستشفائية تكون بمتناول جميع المواطنين دون استثناء.
توفر الدولة سلة الخدمات الأساسية معتمدةً بشكل أساسي على شبكة المراكز الصحية والمستشفيات الحكومية ولا تغطي العلاجات في القطاع الخاص إلاّ اذا كانت غير متوفرة ضمن الشبكة المعتمدة وبموجب موافقة مسبقة.
يتوجب على المواطن ان ينتسب إلى واحد من المراكز الصحية التي تعتبر المدخل إلى نظام الخدمات الصحية ويمكن ان يختار المركز وفقاً للنطاق الجغرافي المحدد لسكنه او لنطاق جغرافي مجاور.
يؤمن المركز الصحي البرامج الوقائية وخدمات الرعاية الصحية الأولية بحيث يقوم بنشاطات الكشف المبكر على الأمراض عبر المعاينة السريرية والفحوصات المخبرية والشعاعية كما يؤمن العلاجات بالأدوية الجنيسية المضمونة الجودة. اما في حال عدم توفر الخدمات العلاجية المناسبة في المراكز، فيحال المريض إلى العيادات الخارجية المختصة في المستشفى الحكومي في القضاء او إلى الإستشفاء داخل المستشفى وفقاً للحاجة.
تحال الحالات التي لا يمكن معالجتها في المستشفيات الحكومية الريفية إلى مستشفى المحافظة الحكومي ومنها او مباشرة إلى المستشفى الحكومي الجامعي في بيروت وفقاً لكل حالة.
إذا كانت الحاجة تتعدى امكانيات شبكة المراكز والمستشفيات الحكومية بما فيها المستشفى الجامعي المركزي، تتحمل الوزارة تكاليف العلاج في المستشفى الخاص شرط ان يكون المريض قد احيل اليه من خلال نظام الإحالة المعتمد.
يكون الإنتساب إلى الشبكة بالحصول على البطاقة الصحية التي تقدم مجاناً للمواطنين الأكثر فقراً. كما يتم اعفاء هؤلاء حتى من المساهمة المحددة عند الحصول على الخدمة مهما كان نوعها.
يتم تحديد المواطنين الأكثر فقراً استناداً إلى المسح الذي تقوم به وزارة الشؤون الإجتماعية (Proxy means testing). وتقوم وزارة الشؤون بتسديد ثمن البطاقات والمساهمات المترتبة على هذه الشريحة من المواطنين.
يتوجب على العائلات خارج الشريحة الأكثر فقراً الإنتساب إلى نظام التغطية عبر شراء بطاقة انتساب، تسدد على دفعتين ويحصل المراهقون والأطفال ضمن العائلة على البطاقة بدون أي مقابل.
فور الحصول على البطاقة يخضع كل فرد إلى فحوصات تشخيصية مجانية تشمل التحاليل المخبرية والتصوير الشعاعي وتخطيط قلب وغيرها وفقاً لعمر وجنس كل منهم كما تقدم اللقاحات مجاناً للأطفال وفقاً لأعمارهم.
يتم تحصيل القسط الأول من قبل المستشفى الحكومي او المركز الصحي المعني اللذين يتصرفان بالمبلغ وفقاً لإتفاق بينهما لتغطية قسم من تكاليف المعالجات الخارجية. تتعهد وزارة الصحة العامة بتقديم الدعم للمركز والمستشفى الحكومي وفقاً لعقدي الرعاية الصحية والإستشفاء المعمول بهما.
يسمح لشركات التأمين الخاصة وصناديق التعاضد بتحصيل القسط الثاني للبطاقة لصالح الدولة وتقديم بوالص تكميلية للميسورين الراغبين بذلك.
الكلفة المتوقعة لمشروع التغطية الشاملة
ان احتساب كلفة مشروع اعفاء الأسر الأكثر فقراً من أية مساهمة في تكاليفهم الصحية وتخفيف هذه التكاليف على الأسر الأقل فقراً يستوجب تحديد هذه الفئات وحجم انفاقها على الصحة.
ان مصادر الإنفاق الإجمالي على الصحة هي كما يلي:
44% تدفع مباشرة من موازنة الأسر عند استهلاك الخدمة (OOP).
29% تدفع من خزينة الدولة وتشمل اجمالي موازنة وزارة الصحة وربع انفاق الضمان وموازنات العلاج لباقي الصناديق الضامنة.
27% اشتركات على شكل دفع مسبق prepayment وتشمل اشتراكات الضمان وأقساط التأمين الخاص مقسمة مواردها بين 16% من الأسر و11% من ارباب العمل.
ان ما يدفع مباشرة من جيوب المواطنين (OOP) وفقاً لدراسة الظروف المعيشية للأسر التي اجرتها إدارة الإحصاء المركزي عام 2005[3]، يوزع وفقاً لفئات الدخل على الشكل التالي:
فئات الدخل الأدنى التي يقل دخلها الشهري عن 650 ألف ليرة تدفع 30% من مجموع الإنفاق المباشر(OOP)، بينما تدفع فئات الدخل التي تتراوح بين 650 ألف ومليون و200 ألف ليرة شهرياً 30% منها، والباقي أي 40% تدفعه فئات الأسر التي يزيد دخلها عن مليون و200 ألف ليرة. مع العلم ان قسماً كبيراً من الانفاق الأخير يدفع لتغطية علاجات غير اساسية كعلاجات الدرجة الأولى والجراحة التجميلية.
يقضي مشروع حماية الفقراء والإنصاف بالتمويل الصحي بإعفاء الفئات الأدنى من أية مساهمة وخفض انفاق الفئات المتوسطة على الصحة إلى النصف.
إذا اعتبرنا ان الإنفاق الإجمالي على الصحة يشكل حوالي 8.5% من الناتج المحلي القائم GDP وان 44% من هذا الإنفاق يأتي مباشرة من جيوب المواطنين (OOP) فتكون مساهمة الأسر المباشرة تساوي 3.74 من الناتج مقسمة على الفئات الثلاثة للدخل على الشكل التالي 1.122%، 1.122% و1.496%. وبالتالي يكون الإنفاق المطلوب تغطيته 1.683% (2/1.122%+1.122%)
إذا احتسبنا على اساس الناتج المحلي القائم للعام 2009 أي 53 ألف مليار ليرة، فيكون تقدير المبالغ المتوجب تخفيضها بما يقارب 900 مليار ليرة. إلاّ ان ذلك لايعني بأن كلفة المشروع تساوي هذا المبلغ. من المعروف ان تلبية احتياجات المواطنين عن طريق تقديمها او تمويلها من الدولة تكلف اقل بكثير مما يدفعه المواطنون مباشرة للحصول عليها. ولقد اثبتت تجربتنا في لبنان بأن ما تدفعه الدولة اذا ما أُحسن انفاقه يعادل ثلاثة اضعاف ما تدفعه الأسر مباشرة من حيث النتائج[4]. اي ان كلفة المشروع تقدر بـ300 مليار ليرة، شرط التقيد بأصول الإنفاق الرشيد والمجدي المشار اليه، خاصة لجهة اعتماد مراكز الرعاية الصحية الأولية والأدوية الأساسية الجنيسية ونظام الإحالة إلى او عبر المستشفيات الحكومية وما يقتضي ذلك من دعم لهذه المراكز والمستشفيات. إلاّ ان المرحلة الأولى المتعلقة بالعلاجات الأساسية فتبلغ كلفتها التقديرية 60 مليار ليرة تتحمل منها الدولة 40 مليار ليرة فقط.